الحلقة الاولي قتيبة بن مسلم فاتح بلاد ما وراء النهر
كيف نجح الحجاج في خلع يزيد بن المهلب من ولاية خراسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان قتيبة بن مسلم من أعظم أبطال التاريخ الاسلامي، فلا يذكر مسلموا الاتحاد السوفيتي السابق في أسيا الوسطي، إلا اذا ذكر هذا البطل العظيم الذي أدخل الاسلام إلي هذه البقاع، وبذلك ارتفع نداء التوحيد فوق هذه الربوع، ومازال حتي الآن.
ها نحن نعود إلي الوراء عبر أزمنة التاريخ، إلي عصر عبدالملك بن مروان، الذي استطاع أن يخمد الثورات ويوحد العالم الاسلامي تحت راية واحدة، وتصبح الدولة الأموية في عهده من أقوي الدول الذي عرفها العالم، حيث بدأت سمات هذا العصر واضحة القسمات تفصح عن قوة العالم العربي واستقلاله السياسي والاقتصادي فقد عربت الدواوين في عصره، وضرب الدينار العربي كما نظم ديوان البريد، وكان بمثابة جهاز رقابي لمراقبة عماله في مختلف أقطار العالم الاسلامي.
وكان عبدالملك قد تولي الخلافة في رمضان سنة 65ه وهاله التمزق الهائل في الدولة، فلم يكن يملك إلا الشام ومصر، بينما استقل عبدالله بن الزبير بالحجاز وجزء من العراق وبلاد الفرس، كما كان الشيعة يسيطرون علي جزء من العراق بقيادة المختار بن عبيد الله الثقفي، بينما تمكن الخوارج من إقليم الأهواز، واليمامة، واستطاع عبدالملك بفضل قادته وعلي رأسهم الحجاج بن يوسف الثقفي، وأخوة الخليفة من أمثال بشر بن مروان، ومحمد، وعبدالعزيز أن يقضيا علي الشقاق في الدولة واخضاعه لحكم عبدالملك الذي كان علي شيء كبير من الفقه، وقدرة هائلة في الادارة والتنظيم، مما دفع الدولة أن يكون لها مكان الصدارة في العالم، وأن يكون من سماتها الرئيسية: القوة والتقدم والأزدهار.
ومن بين القادة العظام الذين ظهروا في عهد عبدالملك بن مروان، وما بعده من الخلفاء (قتيبة بن مسلم الباهلي) الذي فتح بلاد ما وراء النهر.. أو بلاد ما يسمي اليوم بأسيا الوسطي. وهي البلاد التي كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي قبل سقوطه، ونالت الاستقلال.. وهذه البلاد تقع بين نهر جيجون ونهر سيحون. وكانت هذه البلاد تضم من عدة ممالك، تم فتحها علي يد هذا الفاتح العظيم خلال عشر سنوات (86 96ه) في خلافة الوليد بن عبدالملك.. وقد شجعه علي هذه الفتوحات الحجاج بن يوسف الثقفي، وهذا يعني أن الحجاج له صفحات بيضاء في تاريخ هذه الفتوحات وخاصة التي تمت فيما وراء النهر، أو في الهند.
فما هي قصة قتيبة هذا؟
وكيف استطاع أن يغزو ويفتح هذه البلاد؟
وكيف استطاع أن يرفع راية الاسلام علي هذه الاصقاع البعيدة؟
وكيف استطاع أن يضع اسمه بين الفاتحين العظام وما نهاية هذا البطل العظيم؟
أراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن يخلع يزيد بن المهلب من لاية خراسان، فهو يعرف أن الرجل شديد القوة، وأنه يكره الحجاج بن يوسف الثقفي، ويري أنه لايستحق ما وصل إليه من جاه وسلطان، وأنه أحق من الحجاج في القوة والسلطة، وخاصة أنه كان له مع أبيه الفضل في الاطاحة بالخوارج وهزيمتهم، كما أنه من الأزد الذين يعتد بهم، وقد تولي خراسان بعد موت أبيه المهلب في سنة 82 ه.
ولم يرق هذا الأمر للحجاج الذي كان يعرف أن يزيد بن المهلب يستهين به وبنسبه، ومن هنا كان تفكير الحجاج الجدي في التخلص منه، وإزاحته من طريقه، وخلعه من حكم خراسان!
ولكن ما السبيل إلي ذلك؟
يقول علي أدهم:
'.... ولما ساورته هذه المخاوف (يعني الحجاج) وطافت برأسه الظنون لم يجد بدا من الكتابة إلي عبدالملك يطلب عزل يزيد بن المهلب عن خراسان، ولكن عبدالملك لم يكن برغم ثقته الشديدة بالحجاج الرجل الذي يقبل الأراء والمقترحات بغير نظر ولامراجعة.
وكان الحجاج حينما طلب عزله وأراد أن يضم عبدالملك إلي رأيه قد اتهم يزيد بأنه يميل إلي آل الزبير، خصوم عبدالملك وبيته ومنافسيه علي الخلافة..
ولم يقتنع عبدالملك بهذا الكلام، ولم يرقه هذا الاتهام، فكيف إلي الحجاج يقول:
: إن ذلك وفاء لآل الزبير من آل المهلب وأن وفاءهم لاولئك يدعوهم إلي الوفاء لنا، فلم يصرف هذا الكتاب الحجاج عن طلبه، وأعاد الكتابة إلي عبدالملك يخوفه غدر يزيد وآل المهلب، فوقع هذا الكلام في نفس عبدالملك واستصوبه فكتب إلي الحجاج يقول:
: قد أكثرت في يزيد، قسم لي رجلا يصلي لخراسان'.
فسمي له الحجاج رجلا يدعي 'فجاعة بن سعر'، وإنما جعل ذلك دهاء منه حتي لايعرف عبدالملك حقيقة ميوله، لأن هذا الرجل لم يكن يصلح، وكان الحجاج يعلم العلم كله أن عبدالملك سيرفض اختياره، وكتب إليه عبدالملك يسأله رأيه في اختياره، وهنا لاحت الفرصة ليعرض علي عبدالملك اسم الرجل الذي كان الحجاج يقدره ويثق فيه، ويطمئن إلي اخلاصه وكفايته، وكان هذا الرجل هو 'مسلم بن قتيبة الباهلي'.
ولما سماه الحجاج لعبدالملك أقر اختياره ووافق عليه.
وكره الحجاج أن يواجه يزيد بن المهلب بالعزل، ولعله خشي أن يحدث حدثا ويخالف أمره، فيكتب إلي يزيد يستقدمه ويوصيه أن يخلف أخاه المفضل، وأبطأ يزيد علي الحجاج، فكتب الحجاج إلي أخيه المفضل:
'إني قد وليتك خراسان'!
فجعل المفضل يستحث أخاه علي الذهاب إلي الحجاج، ولم يغب عن يزيد هذه الحيلة، فقال لأخيه:
ان الحجاج لايقرك بعدي!
وإنما دعاك إلي ما صنع مخافة أن أمتنع عليه'!
ولكن أخاه كان قد فرح بالولاية وطمع فيها فأجابه.
بل حسدتني!
فقال له يزيد:
أنا لا أحسدك ولكن ستعلم'!
وخرج يزيد من خراسان، فعزل الحجاج المفضل وولي قتيبة بن مسلم..
وكان قتيبة عامل الحجاج علي الري فكتب إليه الحجاج ليستوثق من المفضل وبني أبيه ويشخصهم إليه.
فلما قدم قتيبة مرو أخذ المفضل وسائر ولد المهلب وأشخصهم إلي الحجاج، فحبسهم جميعا، وطالبهم بمال كثير، وأمعن في إذلالهم وتعذيبهم، حتي اضطرهم إلي الهروب من وجهه، ولاذوا بسليمان بن عبدالملك الذي شفع لهم عند الخليفة الوليد، وأظلهم برعايته وحماهم من سطوة الحجاج'.
كان قتيبة بن مسلم من باهله، وكان متواضع النسب، رغم أن والده كان ذا خطوة عند الخليفة يزيد بن معاوية، ولكن هذه القبيلة التي ينتمي إليها قتيبة لم تكن ذا بال، بل كان العرب ترميهم بالضعة والضعف، حتي تردد بين الناس قول الشاعر عن هذه القبيلة الضعيفة، وهو يصف رجالها بقوله:
ولو قيل للكلب ياباهلي
عوي الكلب من لؤم هذا النسب
ورغم هذا الشعر الذي كان يردده الناس عن هذه القبيلة.
ورغم ما أشيع عن ضعف هذه القبيلة ورجالها وعدم اشتهارها بالشجاعة، وكل ما كان يفتخر به الانسان العربي.. رغم كل ذلك فقد برز اسم قتيبة بن مسلم، وأصبح اسمه يرمز إلي الشجاعة المنقطعة النظير، كما أصبح اسمه يرمز إلي الدهاء وحسن السياسة، والقدرة علي التغلب علي الصعاب في أصعب المواقف، وأشدها إيلاما، بل لمع اسمه متخطيا ما قيل عن قبيلته كمتحد قوي ضد الخوارج، بل أنه كان يقول رأيه بشجاعة عظيمة أمام الحجاج نفسه، حتي لو كان رأيه مخالفا لرأي الحجاج، بل أنه واجه الحجاج بكل شجاعة وهو يطالبه بضرورة مواجهة الخوارج حينما اشتد عودهم وقويت شوكتهم، ولم يعبأوا بمواجهة الحجاج نفسه، بل هاجموه وانتصروا عليه في كثير من المواقع.. وهذه الشجاعة هي التي حببت قتيبة إلي قلب الحجاج، فاحتضنه وآمن بموهبته العسكرية والسياسية